السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذكريات
" يمشي يقـدِّم خُطوة ويؤخر أخرى "
لم يعرف معنى هذه الكلمات حقــًا إلا الآن ، فهو يشعر وكأن على عاتقه جبل ، بالكاد يتحرك للأمام ،
يخطو خطــًى رقيقة ؛ فهو لا يطأ ُ الأرض وإنما يطأ ُ قلبه
وقف أمام الباب البني ذي الزخارف الجميلة وتأمله كأنه يقف أمامه للمرة الأولى ، استعد ليرن الجرس
لا أقول إنه كان مترددًا ، بل إذا أردت أن تعرفَ معنى التردد عليك أن تنظرَ إليه في هذه اللحظة
فتحتِ البابَ فتاة ٌ جميلة متسعة العينين ينسدل شعرها الاصفر على وجهها الجميل وقد غطى نصفـَه ،
لم تصدقْ ما تراه ، فقط لملمت شعرها للوراء ونظرت إليه في دهشة
وطال صمتهما هي لا تصدق أنه قادر على فعل ذلك ، وهو يَأسَفُ لماض ٍ وذكرياتٍ جميلةٍ
استجمع قواه وقطع الصمت قائلا : كيف حالك ؟
فلم تجب فعاجلها : كيف حال خالتي ؟
تلعثمت في الكلام وقالت بصعوبة : الحمد لله ، تفضل .
دخل الشقة فتداعت عليه ذكرياته فلم يملك نفسه من البكاءِ ، بكاءٍ ليس بكاءَ العين ، إنما كان
بكاءَ القلبِ ، بكاءٌ بلا دموع ، بكاءُ رجل ٍ جريح ٍ لا يسمحُ للعبراتِ أن تخرجَ من بياتها الأبديّ
كانت ابنة خالته تعمل معه في العمل نفسه ، وكان متدينًا ذا خلق ٍ ومبادئ ولم يتوقعْ قط أن
تحدث بينهما علاقة ما سوى المودة في القربى ، هي لاهية لاعبة تعيش حياتها كما تشاء
وهو له هدف في الحياة وله غاية ، يعيش ُ من أجل مبادئ يحققها ، يعيش بها ولها .
قاطعت ذكرياته قائلة : دقيقة واحدة سأرى إن كانت أمي مستيقظة أم نائمة .
هو لم يكن يريد أن يدخل هذه الشقة ولكنًّ مرضَ خالته الشديد أجبره على أن يتحملَ آلام هذا
الموقف الصعب .
جلس ينتظر الإذن بالدخول , وذكرته هذه الجلسة بأخرى ، ذكرته بجلسة من ذكرياته
- حمزة .
- نعم يا رضوى
- أريد أن أتكلم معك
- دقيقة واحدة سأنهي عملي بعد قليل
وبعد دقائق معدودة
- نعم يا رضوى ، فيمَ تريدين أن تتكلمي ؟
- لا أعرف من أين أبدأ ولكن ما أعرفه أنك ستندهش مما أقول .
- ولماذا الاندهاش ؟ هاتِ ماعندك .
سكتت قليلا ثم تابعت
- ما أريد أن أقولـَه إنني أشعر نحوك بشعور ٍ غريبٍ أشعر وكأنني أحِبـُّـكَ وأريد ...
قاطعها قائلا :
أنت تعلمين جيدًا أننا ضدان ِ مختلفان ِ في العادات والاهتمامات وفي كل شيء إلا القربى .
- أعلم ذلك ولكني على استعداد ٍ تام ٍ لأتحول إليك وأغيـِّرَ من عاداتي واهتماماتي تلك
قطعت محادثة الذكرياتِ بصوتها الرقيق : تفضل يا حمزة
صوب نظـرَهُ إليها وأومأ برأسه قائلأ : نعم
كانت هذه إجابة في الحاضر على ذكريات في الماضي كان عليه أن يقول حينها لا
دخل الغرفة فوجد خالته على السرير وقد تمكن المرضُ منها ، وغيـَّرَ لونَها إلى الشحوب ِ
وساءتْ حالتـُها سوءًا
اعتصره الأسى لحال خالته ، ونزلتْ دمعة ساخنة على يدها الباردة فنظرت إليه بصعوبة
- حمزة ! كيف حالك ؟
مدّ يده إلى يدها ودنا منها وقبَّـلَ يدها ورأسَها : المهمُ أنتِ ، كيف تشعرين الآن ؟
- كما ترى يا بُنيّ
نظر إليها في حزن ونزلت دمعة أخرى منه ، ربما ذكرته هذه الدمعة بأخرى كانت تحاول
الهروبَ من سجن عبراته وكادت تنجح في ذلك لولا إحكامه الرقابة عليها
وسحبه صوتــُها الرقيق القادم من الماضي لذكرياته
- حمزة إلى متى ستظل تفكر فيما قلته لك ؟ حمزة أنا أحبك ، أصبحت لا أرى الحياة بدونك .
إذا نظرت في عينيه الخضراوين تجد أنهما امتلأا بالحَيْرَةِ ، هو ليس عنده مانعٌ إذا تغيرت ، أما
أن تظلَ كما هي فذلك عنده مرفوضٌ ، نعم كان يمني نفسه بذلك من قبل فطالما أحبها منذ
صغره ، منذ كانا يلعبان معًا كطفلين لا يدور في أذهانهما سوي اللهو وعاطفة رقيقة هي بذرة
للحب في المستقبل إذا ما رويت وعُـنِيَ بها الطرفان ِ .
وقد أحس بهذه العاطفة الرقيقة في قلبه عندما كبر وأصبح يلتمس الحب الصادق في قلوب
الفتيات ، وكان يقول لنفسه : لو تغيرت لتقدمت إليها فورًا .
أما عن حَيْرَته فقد كانت في مدى صدقها في ذلك ، فهو يعرفها جيدًا ، ولكنه سعيد بذلك ولا
يستطيع أن يتفوه بلفظة الرفض ؛ ولذلك لم يقوى على مطاردتها له واستجاب لها راضيًا سعيدًا
وتمتِ الخطبة ُ ، وفتح لها قلبه على مصرعيه ؛ فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرف
فيها إلى فتاة تمنحه شعور الحب والألفة .
عاش أيامًا جميلة ً في حبها ، وتلاشت نفسه في نفسها وتنازل عن نفسه لها وانصاع لرغباتها
وشكلته كما تشاء .
قد تتعجب من أنه تنازل عن مبادئه وأهدافه في الحياة لها بسهولة ولكن لو كنت أحببت من
قبل بصدق فلن تتعجب من ذلك ، إنه بحر الحب لا يجيدُ السباحة فيه أحد ٌ مهما كان ماهرًا
واستفاق من غرقه في بحرالحب على صفعة ٍ قالتها في وجهه بلا أدنى شعور :
- أنا كسبتُ الرِّهانَ .
تـُرَى أيُّ رهان ٍ كسبته منه وهو لم يراهن أصلا ؟
رهانٌ على أن يتخلى حمزة عن مبادئه لها وينصاع لرغباتها ، فلما انتهت من لـُعبتها طردته
من حياتها شرَ طردة كادت حينها تنزل دمعة منه لكنه تماسك وحبسها إلى الأبد
قطع تلك الذكريات ناويًا عدم العودة إليها مجدَدًا ، نظر إلى خالته نظرة أخيرة وودعها راجيًا
من الله شفاءها ، ثم التفت إليها ورمقها بنظرةِ تـَحَدٍ من قلبٍ مهزوم ٍ ثم انصرف تاركًا
ذكرياته لها فلم يأتِ لزيارة خالته فقط بل جاء ليترك لها تلك الذكريات التي لا يقوى على حملها
أكثر من ذلك .
اتمنى ان تنال اعجابكم